الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
فإن الأصل فيه كأنه فخفف كأن وحذف ضمير الشأن، لكن صرح ابن هشام في شواهده أن ذلك غير متعين إذ يجوز كون الضمير للوجه أو للصدر على رواية وصدر وروي كأن ثدييه على إعمال كأن في اسم مذكور ولا يبعد أن يجوز ذلك في الرواية الأولى على بعض اللغات، والجملة التشبيهية في موضع الحال من فاعل {مَرَّ} أي مر مشبهًا بمن لم يدعنا {إلى ضُرّ} أي إلى كشفه لأنه المدعو إليه، وقيل: لا حاجة إلى التقدير، وإلى عنى اللام أي لضر {مَسَّهُ} والظاهر أن هذا وصف لجنس الإنسان مطلقًا أو الكافر منه باعتبار حال بعض الأفراد ممن هو متصف بهذه الصفات.وذكر الشهاب أن للمفسرين في المراد بالإنسان هنا ثلاثة أقوال فقيل: الجنس وقيل: الكافر وقيل: شخص معين وعليه لا حاجة إلى الاعتبار لكن لا اعتبار له {كذلك} أي مثل ذلك التزيين العجيب {زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الإعراض عن الذكر والدعاء والانهماك في الشهوات، والإسراف مجاوزة الحد وسموا أولئك مسرفين لما أن الله تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة وهم قد صرفوها إلى ما لا ينبغي مع أنها رأس مالهم، وفاعل التزيين إما مالك الملك جل شأنه وإما الشيطان عليه اللعنة وقد مر تحقيق ذلك وكذلك فتذكر. وتعلق الآية الكريمة بما قبلها قيل من حيث أن في كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الاستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقرر في الأولى ومن الضر المقرر في الأخرى.وذكر الإمام في وجه الانتظام مع الآية الأولى وجهين. الأول: أنه تعالى بين في الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك وأكد ذلك في هذه الآية حيث دلت على غاية ضعفه ونهاية عجزه. والثاني: أنه سبحانه أشار في الأولى إلى أن الكفرة يستعجلون نزول العذاب وبين جل شأنه في هذه أنهم كاذبون في ذلك الطلب حيث أفادت أنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه انتهى. ولكل وجهة.وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع إليه في الشدة واللائق بحال الكامل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء فإن ذلك أرجى للإجابة ففي الحديث: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: ادع الله تعالى يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك، وفي حديث للترمذي عن أبي هريرة، ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء» والآثار في ذلك كثيرة.
وخلفت في قرن فأنت غريب {مِن قَبْلِكُمْ} أي من قبل زمانكم، والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمي، والجار والمجرور متعلق بأهلكنا، ومنع أبو البقاء كونه حالا من القرون {لَمَّا ظَلَمُواْ} أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغي والضلال، والظرف متعلق بأهلكنا وجعل لما شرطية بتقدير جواب هو أهلكناهم بقرينة ما قبله تكلف لا حاجة إليه وقوله سبحانه: {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} حال من ضمير {ظَلَمُواْ} باضمار قد وقوله تعالى: {بالبينات} متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو حذوف وقع حال من {رُسُلُهُمْ} دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو متلبسين بها حين لا مجال للتكذيب، وجوز أبو البقاء وغيره عطفه على {ظَلَمُواْ} فلا محل له من الاعراب أو محله الجر وذلك عند من يرى إضافة الظرف إلى المعطوف عليه، والترتيب الذكرى لا يجب أن يكون حسب الترتيب الوقوعي كما في قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا} [يوسف: 100] ولا حاجة إلى هذا الاعتذار بناء على أن الظلم ليس منحصرًا في التكذيب بل هو محمول على سائر أنواع الظلم، والتكذيب مستفاد من قوله تعالى: {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} على أبلغ وجه وآكده لأن اللام لتؤكيد النفي.وهذه الجملة على الأول عطف على {ظَلَمُواْ} وليس من العطف التفسيري في شيء على ما قاله صاحب الكشف خلافًا للطيبي لأن الأولى أخبار باحداق التكذيب وهذه أخبار بالإصرار عليه، وعلى الثاني عطف على ما عطف عليه، وقيل: اعتراض للتأكيد بين الفعل وما يجري مجرى مصدره التشبيهي أعني قوله سبحانه: {كذلك} فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أي مثل ذلك الجزاء الفظيع أي الاهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة {نَجْزِي القوم المجرمين} أي كل طائفة مجرمة فيشمل القرون، وجعل ذلك عبارة عنهم غير مناسب للسياق. وقرئ {يَجْزِى} بياء الغيبة التفاتًا من التكلم في {أَهْلَكْنَا} إليها. وحاصل المعنى على تقدير العطف أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل وأنهم ما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم، ويقتصر على الأمر الأول في بيان الحاصل على تقدير الاعتراض، وذكر الزمخشري بدل الأمر الثاني علم الله تعالى أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل عليهم السلام وجعل بيانًا على التقديرين وفيه ما يحتاج إلى الكشف فتدبره.وتعليل عدم الإيمان بالخذلان ونحوه ظاهر، وكلام القاضي صريح في تعليله أيضًا بعلم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر. واعترض بأنه مناف لقولهم: إن العلم تابع للمعلوم، وتكلف بعض الفضلاء في تصحيحه ما تكلف ولم يأت بشيء. وقال بعض المحققين: معنى كون العلم تابعًا للمعلوم أن علمه تعالى في الازل بالمعلوم المعين الحادث تابع لماهيته عنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية وفعليتها فيما لا يزال فتابع لعلمه الأزلي التابع لماهيته عنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال على هذه الخصوصية فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه تعالى الأزلي ووقوعه تابع له وهذا مما لا شبهة فيه وهو مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى وبه ينحل إشكالات كثيرة فليحفظ. وذكر مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني أن معنى كون العلم تابعًا للمعلوم أنه متعلق به كاشف له على ما هو عليه وبني على ذلك كون الماهيات ثابتة غير مجعولة في ثبوتها، والقول بالتبعية المذكورة مما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره ونازع في ذلك عبد الكريم الجيلي. وقال الشيخ محمد عمر البغدادي عليه الرحمة: إن كون العلم تابعًا للمعلوم بالنظر إلى حضرة الأعيان القديمة التي أعطت الحق العلم التفصيلي بها وأما بالنظر إلى العلم الإجمالي الكلي فالمعلوم تابع للعلم لأن الحق تعالى لما تجلى من ذاته لذاته بالفيض الأقدس حصلت الأعيان واستعداداتها فلم تحصل عن جهل تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا وحينئذ فلا مخالفة بين الشيخ الأكبر قدس سره والجيلي، على أنه إن بقيت هناك مخالفة فالحق مع الشيخ لأن الجيلي بالنسبة إليه نحلت تدندن حول الحمى، والدليل أيضًا مع الشيخ كنار على علم لكنه قد أبعد رضي الله تعالى عنه الشوط بقوله: العلم تابع للمعلوم والمعلوم أنت وأنت هو والبحث وعر المسلك صعب المرتقى وتمام الكلام فيه يطلب من محله.واستفادة معنى العلم هنا على ما قيل من التأكيد الذي أفادته اللام، وفي الآية وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لأنهم وؤولئك المهلكين مشتركون فيما يقتضي الإهلاك، ويعلم مما تقرر أن ضمير {كَانُواْ} للقرون وهو ظاهر، وجوز مقاتل أن يكون الضمير لأهل مكة وهو خلاف الظاهر، وكذا جوز كون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذانًا بأنهم أعلام في الإجرام وذكر {القوم} إشارة إلى أن العذاب عذاب استئصال.والتشبيه على هذا ظاهر إذ المعنى يجزيكم مثل جزاء من قلبكم، وأما على الأول فهو على منوال {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وأضرا به وفيه بعد أيضًا بل قال بعض المحققين: يأباه كل الاباء قوله سبحانه:
|